حكايه لطارق امام
فجأة ظهرت في البلدة رأس
غريبة، تنز الدماء الساخنة من مكان بترها عن العنق. تدحرجت قادمة من ناحية
المقابر العمومية.. وقطعت طرقاً متعرجة إلي أن وصلت إلي الساحة الرئيسية.
كانت رأس رجل، لها شارب ولحية كثيفان ويغطي فروتها شعر غزير ثقيل.. كانت
العينان جاحظتان والوجه مزرق واللسان يطل من خارج الفم.. ويسيل منه لعاب
لزج مزبَّد دون توقف!
لسوء حظها، استقرت الرأس بين أقدام الأطفال في
الساحة الترابية حيث تعودوا أن يتجمعوا بعد الظهيرة للعب. بدت لهم تلك
الكرة الغريبة مدهشة بشكلها غير المسبوق.. وبمجرد أن انحني أحدهم ممسكاً
بها فوجئ بها تحدثه قائلة: «إنني أبحث عن جسدي». تركها الطفل مفزوعا وجري
مع بقية أقرانه هاربين ليتركوها وحيدة.
واصلت الرأس زحفها، ولم
يمض وقت طويل حتي كانت البلدة كلها قد شاهدت الرأس المبتورة التي تتجول في
الشوارع بين أقدام الناس طالبة المساعدة. بعد لحظات الرعب الأولي صار
الناس يهشونها بأقدامهم بقسوة.. لأنهم ظنوها روحاً شريرة. كان الناس قد
تعرضوا مراراً لخدع من هذا النوع.. بطلها في الغالب الشيطان وأعوانه..
وتعلموا أن الفضول هو أسرع الطرق للخسارة. وفي الحقيقة، فقد كان شكل الرأس
الغريب يدعو للخوف خاصة مع نقاط الدم التي لا تتوقف عن السيلان بامتداد
الطرقات. ورغم أن بعض الأهالي حَدَسوا أن هذه الرأس قد تكون تدحرجت من
عربة السيرك التي تجوب البقاع لتقدم عروضها للأهالي.. إلا أن ذلك نفسه كان
أدعي لتجاهلها بشكل أكبر.. لأن الناس في البلدة كانوا يصدقون أن السحرة
والحواة وكل العاملين بالسيرك ليسوا سوي أسري للشيطان. ورفضت العديد من
البيوت زواج بناتهن من رجال أشداء مفتولي العضلات موفوري الصحة خوفاً من
إنجاب مسوخ مشوهة.
هكذا ظلت الرأس الهائمة عدة أيام لا تجد من
يردُّ علي نداءاتها المستغيثة وصرخاتها التي لا تتوقف، وكانت صرخاتها
تتعالي يوماً بعد الآخر، حتي صارت تصرخ «ساعدوني.. أليس في هذه البلدة من
يصدق المعجزات»؟ بلغت العبارة مسامع بائع المعجزات الذي يحيا عند أطراف
البلدة، بالقرب من جبل الكحل، وأثارت فيه فضولاً يستحيل وصفه.. خاصة أنه
الرجل الوحيد في البلدة الذي يمثل الفضول بالنسبة له باب رزقه ومعني حياته.
كان بائع المعجزات رجلاً غريباً بحاجبين كثيفين تحت عينيه.. وله أنف بلا
ثقوب علي الإطلاق.. وهذا هو السبب في أنه لم يكن يغلق فمه ــ حتي أثناء
نومه ــ لأنه كان يتنفس من خلاله. لم يكن يأكل.. لأن الطعام كان يعوق
تنفسه.. ولا يعرف أحد كيف كان له أن يعيش كل هذا العمر دون أن يتناول
طعاماً. كل ما يبيعه غير عادي، وحتي رجال السيرك كانوا يشترون منه عددا
كبيرا من طيورهم وحيواناتهم ومخلوقاتهم الممسوخة. أتي منذ سنين، وأقام في
الخلاء مع حاجياته الملقاة بجانبه بإهمال.. والتي كانت تبعث علي
القشعريرة. ولم يكن أهالي البلدة يرونه يتجول في الشوارع إلا مع ظهور شيء
غريب يستلزم وجوده. وآخر مرة شوهد فيها كانت عندما ظهرت حية مجنحة ترفرف
في الهواء.. حينها جاء وناداها فهبطت سالمة بين يديه.. ثم همس لها ببضع
كلمات غريبة، وحملها بهدوء عائداً إلي مكانه. كان الأهالي لذلك السبب يرون
أن وجوده في البلدة غير مضر.. وأنه يمثل حماية ما لتلك الأرض البسيطة من
مخاطر المعجزات التي لا تصدق.. وكان هو يقول دائما لزبائنه: «هذه البلدة
أرض معجزات.. ولكن قاطنيها لا يريدون منها سوي الهواء وجدران البيوت
الآمنة».
أتي البائع واقترب من الرأس، ثم حملها بين يديه برفق..
قالت له «إنني أبحث عن جسدي أيها الشيخ.. ألم تر جسداً يتحرك بلا رأس في
هذه الأنحاء؟».. ورد البائع بنعومة الدهاء التي يتقنها : «أخشي أنك ستحتار
في التعرف علي جسدك.. لأن في هذه البلدة هناك أجساد كثيرة تهيم بلا
رؤوس!!». هكذا حمل البائع الرأس وعاد بها إلي مكانه.. ثم أجلسها في حجره
قائلاً : «إن ملامحك الوسيمة اختفت مع شعرك المتطاول غير النظيف ولحيتك
الكثيفة المعفرة والدماء المتيبسة بامتداد وجهك.. سأعيدها لما كانت عليه
ثم يكون لنا شأن آخر!». بدأ البائع عمله وهو يفكر في أنه صار يملك ثروة
حقيقية بين يديه.. فهذه الرأس المقطوعة التي تتحدث يمكن تلقينها حكايات
كثيرة مسلية وبيعها بعد ذلك في مزاد ضخم لمن يدفع أكثر من السحرة..
أحضر أدواته.. وراح يهذب الشعر واللحية ويضمد الكدمات والجروح ويزيل طبقات
الطين والتراب.. وعندما انتهي هتف لنفسه وهو يري الوجه الجميل : » يا
إلهي.. إنه أجمل وجه رأيته في هذا العالم طوال سنوات حياتي التي قاربت علي
الألف!!». قالت الرأس : «أشكرك أيها الشيخ.. هل يمكننا الآن أن نبدأ
مهمتنا؟». ورد البائع الذكي : «بالطبع أيها الجميل.. لكن ليس قبل أن أعرف
حكايتك ». قالت الرأس: «للأسف.. حكايتي لا يمكن أن تُحكي قبل أن يعود رأسي
لجسدي.. فقد قتلت ظلماً.. وسحر لي فلا يمكنني سرد ما حدث لي إلا وأنا
مكتمل.. لأنني وقتها سأستطيع الانتقام لنفسي وسأغدق علي من أرشدني
لاكتمالي».
شعر البائع بإحباط شديد، وكاد الفضول يقتله.. ولكنه
شعر في ذات الوقت أن الصفقة قد تكون أربح إن انتظر اكتمال الحكاية.. فقرر
أن يعثر للرأس علي جسدها. أخرج مئات الأجساد التي بلا رؤوس من أجولته ولكن
واحداً منها لم يكن يخص الرأس.و هنا قرر ــ لأول مرة في حياته ــ أن
يصحبها ويتجول في الأنحاء بحثاً عن جسدها المفقود. بعد أيام من الترحال
الشاق تعب البائع، الذي لم يمش هذه المسافات الطويلة منذ زمن بعيد.. وأحس
أن قدميه لا تقويان علي حمله.. حتي أنه فكر أن يضحي بالمسألة كلها
مستغنياً عن أرباحها.. ولكنه وجد الرأس تقول له: يمكنني أن أستريح علي
جسدك قليلاً وأحمل رأسك.. ورغم أن ذلك يؤلمني أشد الألم إلا أنني أقبله من
أجل خاطرك.. وحينها لن تشعر بوهن لأن الذي يتحرك سيكون أنا».
وافق بائع المعجزات.. وبمجرد أن استقرت الرأس علي رقبته، هتفت : ما أجمل هذا الجسد.. إنه بالضبط ما كنت أبحث عنه!.
ارتعبت رأس بائع المعجزات، وقال: كيف؟ إن هذا جسدي الذي ولدت به قبل ألف سنة.. وأنت لا تزال شاباً صغيراً!.
رد الشاب بابتسامة مرعبة وصوت واهن: كيف تقول ذلك؟ انظر إلي وجهي جيداً!..
في هذه اللحظة وجد بائع المعجزات أمامه وجهاً عتيقاً عجوزاً متغضناً.. قال
صاحبه : لقد تمنيت كثيرا أن أكون بائع معجزات.. وفعلت كل ما يمكنني طيلة
مئات الأعوام.. ولكن كان لابد من خداعك أنت حتي أكون أهلاً لذلك!.. لقد
ضحيت بجسدي نفسه حتي أحصل علي ما أريد.. وطفت الدنيا متدحرجاً حتي أصل
إليك.. وكنت أعرف أن الفضول نقطة ضعفك الوحيدة!.. هذه حكايتي.. وها أنا
أحكيها لك بعد أن صرت مكتملاً.. كما وعدتك!.
ثم ضحك قائلاً :
وأول معجزة سأقدم بها نفسي للبلدة هي أنني خدعت بائع المعجزات نفسه وحصلت
علي جسده.. وستظل رأسك هذه علامة علي فعلتي!
قال الرجل ذلك وهو يستدير مشدداً قبضتيه علي رأس بائع المعجزات المخدوع.. وبدأ رحلة العودة إلي البلدة ليبدأ عمله!.